تأملات في آيات
يقول الله تعالى {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}
(الروم: ٢١)
جاءت هذه الآية الثانية في تعداد نعم الله تعالى سبقها قوله تعالى {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} (الروم: ٢٠)
وكلها بدأت (بضم الباء) بمن التي تفيد التبعيض
أي أن ذلك بعض آيات الله عزو جل
والآية في الأصل العلامة الواضحة يعني أن هذه الآيات واضحات لكن لا يدركها إلا صاحب الفطرة السليمة الذي يبحث عن الحقيقة أو الذي يؤمن بالله عز وجل
أما الآية التي معنا فنلخص الحديث عنها في نقاط معدودة
١ - افتتاحها (بالواو ومن) والواو في أصل وضعها لمطلق الجمع ومن كما قلت سابقا للتبعيض
٢ - آياته جمع يفيد كثرة الآيات وأن ما ذكر (بعضها القليل) وليس الكثير
٣ - أن خلق أن مصدرية (بمعنى خلق) (بفتح الخاء وسكون اللام) والفعل المضارع يفيد التجدد والاستمرار والمصدر يفيد الثبوت والتحقق فالتعبير دال على كليهما بلفظ واحد وقد عبر الله تعالى عن هذا الأمر في بعض الآيات بخلق وفي البعض الآخر بجعل والفرق بينهما أن الخلق إيجاد من العدم أما الجعل فيأتي بمعنى التصيير والتحويل إذا نصب مفعولين وبمعنى خلق وأوجد إذا نصب مفعولا واحدا وكلاهما مراد في الزواج فقد خلق الله تعالى آدم من العدم وخلق حواء من ضلع آدم
أي من العدم حقيقة ومجازا ومن غير العدم حقيقة ومجازا في كليهما
٤ - من أنفسكم كما قلنا من للتبعيض وجاء بلفظ النفس لأنها أقرب شيء إلى الإنسان فالزوج والزوجة نفس واحدة
٥ - أزواجا جمع زوج والزوج يطلق على الزوج والزوجة قال تعالى {وأصلحنا له زوجه} (الأنبياء: ٩٠)
وسر التعبير بذلك أنهما وإن كانا اثنين إلا أنهما كنفس واحدة
٦ - لتسكنوا إليها والسكن في القرآن الكريم لم يأت إلا في ثلاث مواضع
الأول: الليل قال تعالى { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} (يونس: ٦٧)
والثاني: البيوت قال تعالى {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين} (النحل: ٨٠)
والثالث: الزوجة وهو في الآية التي معنا
والترتيب والله أعلم بمراده فيه دلالة على أن السكون في الليل في أي وقت وفي أي مكان يليه السكون في البيوت حتى وإن كان بيتا من جلود الأنعام ثم الختام بالزوجة وهي السكن الحقيقي يدل على ذلك ما أخرجه الإمامان البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاءٌ))
وقد عبر الله تعالى عن ذلك في آيات أخر منها {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة: ١٨٧)
٧ - وجعل بينكم مودة ورحمة وجاء بلفظ الجعل لا بلفظ خلق ليفيد أن المودة والرحمة تصيران بعد الزواج وتبدآن في فترة الخطبة والمودة أعم وأشمل من الحب فالحب قبل الزواج وبعده غالبا ما يكون شهوانيا أما المودة فتنتج من حسن العشرة بين الرجل وامرأته والمودة تحصل في فترة الشباب بين الزوجين أما الرحمة فتكون عند الكبر والآية تحتمل أيضا أنهما يحصلان من أول الزواج إلى ما بعد الوفاة فكثير من الرجال يرفض أن يتزوج بعد وفاة زوجته وكثير من النساء يرفضن الزواج بعد وفاة أزواجهن ولا يعني ذلك أننا ندعوا لعدم الزواج بعد وفاة الزوج أو الزوجة فقد قال الله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم} (النور: ٣٢)
٨ - ختام الآية إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون فقد أكد الكلام بإن وتقديم الخبر ،(في ذلك) ولام التوكيد واسمية الجملة.
٩ - قوله تعالى (يتفكرون) بالفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار وقد آثر التفكر على ما سواه لأنه الموافق لمعنى الآية
والله تعالى أعلى وأعلم
كتبه/
دكتور أحمد إمام عبد العزيز عبيد
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد (المشارك)
بكلية أصول الدين والدعوة بطنطا
جامعة الأزهر
صباح الجمعة ٢٨ / ٧ / ٢٠٢٣م.